فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (19):

قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)}.
كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحقّ، يعتدى عليها بأنواع من الاعتداء، فكان ذلك من أنعم الشريعة الإسلامية على المرأة:
النعمة الأولى: كان الرجل في الجاهلية إذا مات وجاء ابنه أو بعض ورثته وألقى ثوبه على امرأته: كان أحقّ بها من نفسها، فإن شاء تزوجها، ولم يدفع لها مهرا، وإن شاء زوّجها من أحبّ، وأخذ مهرها، فكانوا يرثونها كما يرثون المال، كأنّهم يظنونها ملكا لمورّثهم بما أصدقها من صداق، فأنزل الله هذه الآية ناهيا عن تلك العادة الذميمة فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً} فبين بذلك أنها ليست متاعا يورث.
روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لم يزوّجوها، وهم أحقّ بها من أهلها، فنزلت هذه الآية.
وأخرج أيضا عن السدي قال: أما قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً} فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحقّ بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهم أحقّ بنفسها.
وعلى ذلك يكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم وهن لذلك كارهات.
وأخرج ابن جرير عن الزهري في قوله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً} قال: نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس لامرأته وليّه، فيمسكها حتى تموت فيرثها، فنزلت فيهم.
على هذا يكون المعنى: لا يحل لكم إذا مات أولياؤكم أن تمسكوا نساءهم حتى يمتن فترثوهن.
والظاهر الأول، لأن مآل الثاني بيان أنهم ليسوا من ورثتها، وذلك معلوم من آيات الميراث، فإنها بيّنت من ترث، بخلاف حمله على المعنى الأول، فإنه يؤدي معنى جديدا.
وقرئ كرها وكرها بالفتح والضم ومعناهما واحد، وقيل: الكره بالضم المشقة وبالفتح الإكراه.
النعمة الثانية من نعم الشريعة الإسلامية على النساء: كانوا إذا تزوج أحدهم امرأة وكرهها حبسها وعضلها، حتى تفتدي منه، فنهوا عن ذلك إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، فيجوز حبسها، والفاحشة قيل: هي الزنى، وقيل النشوز، والأولى أن تعم كل ذلك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} يقول: لا تقهروهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ} يعني: الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضربها لتفتدي.
وقال آخرون: إنّ الذين نهوا عن العضل هم أولياء الميت الذين يرثون وقال آخرون: إنهم أولياء المرأة، وهذا ليس بظاهر، لأنّ أولياءها لم يؤتوها شيئا، والله يقول: لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.
وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} يحتمل أن يكون مجزوما على النهي، ويحتمل أن يكون معطوفا على {تَرِثُوا}.
والعضل: الحبس والتضييق، وقرئ مبيّنة بالكسر والفتح فأما الكسر فقد أسند البيان إليها على المجاز. وأما الفتح فعلى معنى أنه بينها غيرها.
النعمة الثالثة: كان الرجال يسيئون عشرة النساء، فيغلظون لهنّ القول، ويضارّوهن، فقال الله تعالى: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال الزجاج: هو النّصفة بالميت والنفقة، والإجمال في القول.
ولو عمل المسلمون بهذا الأمر لسعدت الأسر وشملتها السعادة، لأنّ أسباب شقاء الأسر ترجع إلى سوء العشرة، وافتئات الرجل على المرأة في حقوقها، كأن يخادن عليها، أو يهجرها إلى الخانات والرفقة، ويغلظ لها في القول، فيفسد ما بينهما، وتسوء أخلاق أولادهما من طول النزاع وسوء الأسوة.
عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أيها الناس إنّ النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حقّ، ولهن عليكم حقّ، ومن حقّكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف».
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} فلا تفارقوهن للكراهة وحدها {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} كأن يعطفكم عليهن، فيجعل منهنّ لكم زوجات رضيات، أو يرزقكم منهنّ بأولاد صالحين، فالضمير فيه يرجع إلى {شَيْئاً}.

.تفسير الآيات (20- 21):

قال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)}.
النعمة الرابعة: كان من ظلم الرجال للنساء أن الرجل إذا أراد طلاق امرأته استردّ ما دفعه من مهر، وربما توسّل إلى ذلك برميها بالفاحشة، أو تهديدها بذلك، فنهى الله عن ذلك في هاتين الآيتين، وجعله بهتانا وإثما مبينا، وأنكر عليهم أخذه، ووبّخهم على ذلك بعد أن أفضوا إليهن، وأخذن منهم ميثاقا غليظا.
وقد أخذ من هذه الآية جواز الإغلاء في المهور، لأنّ الله قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً} ومنع أن يأخذوا منه شيئا، والقنطار: المال الكثير الوزن، وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يقلّلونه.
وقد روي عن عمر أنه قال- وهو على المنبر- ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا أنت، أليس الله سبحانه يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}؟ فقال عمر: امرأة أصابت وأمير أخطأ.
وقد احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أنّ الخلوة الصحيحة تقرّر المهر قال: وذلك لأنّ الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق، ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة. قال: ولا يجوز أن يقال: إنه مخصوص بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
وذلك أنّ الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال عمر وعلي المراد من المسيس الخلوة، وقال عبد الله: هو الجماع، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصّصا لعموم هذه الآية.
وهذه المسألة خلافية، فقد ذهب الحنفية إلى أن المهر يتقرّر بالخلوة، وذهب الشافعية إلى أنّه يتقرّر بالجماع لا بالخلوة، ولمالك في ذلك ثلاث روايات:
إحداهن: يتقرر المهر بالخلوة.
وثانيتهن: لا يتقرّر المهر إلا بالوطء.
وثالثتهن: يتقرر بالخلوة في بيت الإهداء، والأصح: تقرّره بالخلوة مطلقا، وقد علمت حجة القائلين بتقريره بالخلوة.
وقد رأى القائلون بأنّه لا يتقرر بالخلوة أنّ هذه الآية مختصة بما بعد الجماع، بدليل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ} وإفضاء بعضهم إلى بعض هو الجماع، لأدلة ستذكر بعد.
وأفضى: من الفضاء الذي هو السعة، يقال فضا يفضو فضوا وفضاء: إذا اتسع.
قال الليث: أفضى فلان إلى فلان أي وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه.
وقد اختلف في المراد بإفضاء بعضهم إلى بعض، فذهب الحنفية وآخرون إلى أنه الخلوة الصحيحة.
وذهب الشافعية إلى أنه كناية عن الجماع، وهو قول ابن عباس ومجاهد، وقد استدل الشافعية لمذهبهم أنّ الله ذكر هذا في معرض التعجب فقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ} والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع. وقد ذكر الفخر الرازي وجوها عدة أخرى وأطال فيها.
ونحن نرى أن هذه الآية لم تنزل في تقرر الصداق وعدمه، فنزلت فيه آية: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فجعل التنصيف بالطلاق قبل المسيس، فينبغي أن يعلم ما المراد بالمسيس أهو الخلوة أم الدخول وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
أما قوله تعالى: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} فهذا إنكار وتوبيخ للأزواج على ذلك الغصب. والبهتان في اللغة: الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة. وأصله من بهت الرجل إذا تحيّر، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه، وكان مقتضى الظاهر ألا يؤتى بوصف البهتان هنا لعدم ظهور الكذب فيه، بل كان يوصف بالظلم مثلا، ولذلك اختلف العلماء في هذه اللفظة، وتقرير مناسبتها، فقال بعضهم: إنه أطلق على كل باطل يتحيّر من بطلانه بهتان.
وقيل: إنه إذا طلقها وأخذ منها ما آتاها- مع أن الله لم يبح ذلك إلا في حالة إتيانها بالفاحشة- أشعر ذلك أنها قد أتت بفاحشة، فكان أخذ المال طعنا فيها من وجه، وظلما لها من وجه آخر، وقيل: المراد أنه رمى امرأته بتهمة ليتوصل إلى أخذ المهر، ووصف الإثم بأنه مبين، لأنه مبين أمر صاحبه أنه ظالم.
وأما قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)} فهو إنكار، والميثاق الغليظ الذي أخذته قال مجاهد وقتادة وغيرهما: هو قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] وهذا وإن كان ميثاقا من الله فإنه ينسب إليهن، لأنهن السبب.
وقيل: هو كلمة النكاح، وهي قوله: نكحت، وقد ثبت عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اتقوا الله في النساء، فإنّكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله».
وقيل: هو الصحبة والعشرة.
ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته. وقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟